في 2011، وفي أوج الربيع العربي، خرج آلاف المغاربة إلى الشوارع للمطالبة بإصلاحات سياسية عميقة و ضد الفساد و من أجل إقرار مبدأ المحاسبة. تم تبني دستور جديد و الذي وإن كان محبطا قياسا إلى مستوى مطالب الشارع إلا أنه مثل تقدما نسبيا مقارنة مع دستور 1996. كان أمام الأحزاب التي خاضت غمار الانتخابات التشريعية التي تلت المصادقة على الدستور تحدي الإجابة على الانتظارات العديدة للمغاربة، والتي كانت ملخصة في الشعار الرئيسي لحراك 20 فبراير: كرامة، حرية و عدالة اجتماعية.
آنذاك، قدم حزب العدالة و التنمية نفسه كمدافع عن قيم النزاهة و الحكامة الجيدة و كمحارب للفساد و لكل مظاهر الريع، عبر شعاره: “صوتك فرصتك لمحاربة الفساد و الاستبداد”.
بفضل تطلع المغاربة للتغيير ورؤية حزب لم يتم بعد اختباره في السلطة، منح المغاربة أكثرية أصواتهم للعدالة و التنمية (مليون صوت من أصل 7 ملايين ناخب) مما أهله لتشكيل الحكومة.
ما هي حصيلة العدالة والتنمية بعد خمس سنوات في الحكم؟ هل استطاع الحزب الوفاء بوعوده الانتخابية و الإجابة على التطلعات الكبرى للمغاربة؟ هل يمكن تجديد الثقة في العدالة والتنمية لخمس سنوات أخرى في الحكم؟
على المستوى السياسي
بحكم أنها أول حكومة في ظل دستور 2011، كان الجميع يترقب كيف ستقوم حكومة بنكيران بتنزيل الوثيقة الدستورية. تمثل أول اختبار في مسلسل المصادقة على القانون التنظيمي للتعيينات في المؤسسات و المقاولات العمومية الاستراتيجية. ترك الفصل 49 من الدستور للقانون التنظيمي مجال تحديد لائحة هذه المؤسسات الاستراتيجية، و التي يعين الملك مسييريها، عبر المجلس الوزاري. في الوقت الذي كنا نتوقع أن يتراوح العدد بين 5 و 10 مؤسسات على أقصى تقدير، صوت نواب الأغلبية، بقيادة العدالة و التنمية، على قانون يشمل حوالي 40 مؤسسة، وهو ما شكل انتقاصا من جوهر العمل الحكومي و إبعادا لقطاعات استراتيجية من المراقبة الحكومية. أصبح بذلك رئيس الحكومة بدون سلطة على مؤسسات كصندوق الإيداع والتدبير و المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للسكك الحديدية والمكتب الوطني للماء والكهرباء ومكتب الهيدروكاربورات والمعادن ومكتب المطارات والخطوط الملكية المغربية وصندوق الضمان الاجتماعي وبنك CIH وشركة العمران و !الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة والقرض الفلاحي، بل و حتى شركة تشجيع الفرس! من الخيمة خرج مايل
بعد بضعة أشهر و إثر خروج حزب الاستقلال من الحكومة، بادر بنكيران إلى تغيير الوزراء الاستقلاليين بآخرين من التجمع الوطني للأحرار، وعلى رأسهم مزوار، نفس مزوار الذي كان بنكيران يصفه بأقذع النعوت خلال حملة 2011.
على المستوى الاقتصادي
أتت حكومة بنكيران في 2011 في إطار ماكرو اقتصادي صعب، في ظل ارتفاع صارخ لأسعار النفط و في سياق انعكاسات الأزمة العالمية على المغرب و على شركائه الاقتصاديين. رغم التحسن العام للإطار الماكرو اقتصادي المسجل حاليا، إلا أن هذا التحسن لا يمكن نسبته للعمل الحكومي. فتراجع عجز الميزانية و تحسن الميزان التجاري و ميزان الأداءات يرجعان بالأساس لانخفاض أسعار النفط في الأسواق الدولية.
بالمقابل عرفت المديونية العمومية تضخما فادحا في ظل حكومة بنكيران. فقد بلغت 82% من الناتج الداخلي الخام في أواخر 2015، و هو ما يتجاوز عتبة ال 70% المنصوح بها لدولة سائرة في طريق النمو كالمغرب. يجمع المحللون على استحالة استدامة هذه المستويات من المديونية العمومية، و الأدهى أن الحكومة لم تقم بأي إجراء عملي لكي يتوقف النزيف.
يشمل رصيد هذه الحكومة، المتشبعة بالعقيدة الليبرالية المتوحشة – الأولتراليبرالية (والتي نجحت في إخفائها عن ناخبيها في 2011)، إجراء آخر اعتبره الكثيرون، عن خطأ، مشروع إصلاح لصندوق المقاصة وهو تحرير أسعار المحروقات. قام لوبي موزعي المحروقات، الممثل بقوة في الحكومة بوزيرين، بضغط رهيب لكي ترفع الدولة يدها عن تحديد أسعار توزيع المحروقات. والنتيجة؟ أصبح موزعو المحروقات هم من يقومون بتحديد أسعار التوزيع في محطات الوقود بطريقة تجعل الأسعار لا تتغير بنفس وتيرة تغير سعر البرميل على المستوى الدولي. ستستمر هذه الممارسات بدون محاسبة في المغرب اللهم إذا استيقظ مجلس المنافسة من سباته العميق.
هناك كارثة أخرى في طور التحضير: تحرير سعر صرف الدرهم. ترتبط العملة الوطنية حاليا بسلة عملات محددة من طرف سلطات الرقابة المالية (موزعة حاليا بين60 في المائة من اليورو و40 في المائة من الدولار). سيصبح سعر صرف الدرهم بعد التحرير خاضعا لقانون العرض و الطلب في سوق العملات، وستتعرض العملة الوطنية لمخاطر الانهيار عند أدنى صدمة اقتصادية أو سياسية، مما سيؤدي لارتفاع تكاليف استيراد المواد الأولية و مواد التجهيز وهو ما سيؤثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للأسر. هل هم واعون بفداحة هذا الإجراء الذي قاوم المغرب لعقود محاولات فرضه من طرف صندوق النقد الدولي؟
هذا الأخير و الذي رفع يده عن المغرب بعد انقضاء 10 سنوات مؤلمة من برنامج التقويم الهيكلي، في 1983، استطاع فرض نفسه من جديد في ظل هذه الحكومة، عبر خط الاحتياط و السيولة (وهو في الواقع مجرد آلية ائتمانية دون أي تحويل أموال إلى اليوم). يحاول الصندوق عبر هذا الخط أن يفرض بكل الوسائل، ودون أن يواجه أية ممانعة، وصفته الأولتراليبرالية التي أثبتت فشلها: تحرير الأسعار، تحرير سعر صرف العملة الوطنية، تقشف الميزانية،….
لن أسهب كثيرا في “مشروع إصلاح” صندوق المقاصة، و الذي رغم مشروعيته تم تقزيمه إلى مجرد حذف لمبالغ الدعم، عوض أن يتم إعادة توجيهها نحو الأسر الأكثر فقرا، أو أن يتم استغلالها مثلا لتحفيز إدماج مستدام للطاقات المتجددة لدى الأسر المغربية. لن أتكلم أيضا عن مشروع إصلاح أنظمة التقاعد العمومية المدنية، و التي تجاهلت معطيات كثيرة و صورت بالمقابل أن هرم أعمار المغاربة مطابق لنظيره في فرنسا أو ألمانيا. سأذكر فقط في الختام بأن هذه الحكومة رفعت في 2014 الضريبة على القيمة المضافة على منتجات أساسية (كالسكر و الشاي و الزبدة…) مؤدية بذلك إلى تقويض إضافي للقدرة الشرائية الهزيلة أصلا للمغاربة الأكثر فقرا.
على مستوى الحريات و مكافحة الفساد
آمال كبرى تلك التي علقت على حكومة بنكيران على مستوى مكافحة الفساد و حماية الحريات العامة، بالنظر إلى الدستور الجديد و إلى الوعود الانتخابية.
كانت البداية مع موضوع المأذونيات الريعية الممنوحة من طرف الدولة. بمجرد ما تم نشر لوائح المستفيدين من مأذونيات حافلات النقل و تراخيص استغلال المقالع، ظن الجميع أن إصلاحا عميقا على وشك الحدوث. للأسف “ما وقع والو”. لم يتم تسجيل أي إجراء عملي يساهم في استئصال سرطان الريع الذي ينخر المغرب و الذي يمنح امتيازات لآلاف الأشخاص لمجرد أنهم قريبون من دائرة السلطة.
ثم جاءت قضية “بريمات مزوار“، الذي كان حينها وزيرا للمالية (قبل أن يتولى حقيبة الخارجية) والذي كان يتبادل علاوات استثنائية (عطيني نعطيك) مع مدير الخزينة العامة. هل أفضى ذلك إلى متابعات قضائية؟ نعم، فقط ضد من قاموا بتسريب الوثائق التي تثبت العملية. وكانت تلك رسالة واضحة من حكومة البيجيدي إلى كل الأصوات التي قد تسول لها نفسها بالتبليغ عن قضايا فساد: سدو فمكوم. كاليك ” صوتك فرصتك لمحاربة الفساد و الإستبداد”.
قضية أخرى أحدثت ضجة في المغرب: سجن علي أنوزلا، مدير نشر موقع لكم و الذي كان قد نشر مقالة متضمنة لفيديو دعائي لتنظيم القاعدة. في الوقت الذي انتظرنا أن ينتصر وزير الاتصال الخلفي لحرية الصحافة و حقها في التعبير عن الأحداث كما هي، قام هذا الوزير (والصحفي سابقا) والمشهور بالمبالغة في تصريحاته الرنانة رفقة زميله وزير العدل الرميد (وهو للتذكير رئيس النيابة العامة) بصياغة بيان ناري يزيد في إغراق أنوزلا عبر اتهامات خطيرة. رغم أن القضية انتهت بسلام (رغم ذلك أنوزلا لا يزال متابعا في قضايا أخرى) إلا أنها أثبتت بأن البيجيدي لا يهتم كثيرا بالدفاع عن حرية الصحافة بالمفهوم المتعارف عليه كونيا.
كانت لحكومة البيجيدي فرصة ذهبية أخرى لكي تثبت بأنها جادة في محاربة الفساد: القانون التنظيمي المنصب لهيئة محاربة الرشوة. رفضت الحكومة بقوة أن توسع من اختصاصات الهيئة و قزمت وظيفتها في إعداد التقارير و بعض التدابير الفضفاضة.
نسجل أيضا التحرش الممنهج ،الذي وصل إلى المنع، والذي مارسته الحكومة تجاه أنشطة المنظمات المنتقدة للسلطات، في حالات فريدوم ناو، أطاك، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، جمعية الحقوق الرقمية… تبقى قضية المعطي منجب ورفاقه أبلغ مثال على حملات التضييق و التي اكتفى خلالها البيجيدي وحلفاؤه بأدوار المتفرجين.
أخيرا، أتى قرار منع الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات لل VoIP كتتويج لمسلسل 5 سنوات من انتهاك الحريات. أمرت هذه الوكالة، التي يرأس بنكيران مجلس إدارتها، من شركات الاتصالات قطع خدمات ال VoIP عن زبنائها ضاربة بعرض الحائط الإيجابيات الاقتصادية و الاجتماعية التي تجعل ملايين المغاربة، في الداخل والخارج، يلجؤون إلى هذه التقنية التواصلية الرائعة، خصوصا الطلبة و المقاولين منهم.
واللائحة طويلة: مشروع القانون الجنائي، انتهاك الحريات الشخصية، الاستعمال المبالغ فيه للقوة خلال المظاهرات العمومية… مما يجعلنا نعاود قراءة البرنامج الانتخابي للبيجيدي فربما كان كل هذا محررا في أسطر غير ظاهرة.
على مستوى الخدمات العمومية والاجتماعية
خلال ولاية البيجيدي، وصلت جودة الخدمات العمومية إلى الحضيض: تعليم، صحة، بنيات تحتية، نقل… إذا كان الكل يجمع على كارثية الوضع، هناك اختلاف على مستوى الحلول المقترحة…
فأمام وضعية تمتص فيها دماء الطبقة المتوسطة بإرغامها على اللجوء إلى المدارس الخاصة لكي توفر تعليما مقبولا لأطفالها (الطبقات الفقيرة مغلوبة على أمرها و لا خيار لها في هذه المسألة…) حيث تخصص الأسرة الواحدة في المتوسط 25 بالمائة من مدخولها لتعليم أطفالها؛ يتجرأ بنكيران على التصريح، أمام هذه الوضعية، بأنه “آن الأوان للدولة بأن ترفع يدها عن بعض القطاعات كالصحة و التعليم” مضيفا بأن “دور الدولة يجب أن لا يتجاوز دعم الفاعلين الخواص المهتمين بهذين المجالين”. مرة أخرى تؤكد أولتراليبرالية البيجيدي على نفسها بطريقة صارخة، متجاهلة طموح الطبقة المتوسطة المشروع في الاستفادة من خدمات عمومية في المستوى في مقابل الضرائب الثقيلة التي تدفعها. هذا دون الحديث عن تدمير المدرسة العمومية، التي كانت تشكل رافعة اجتماعية مكنت العديد من أبناء الأسر الفقيرة من الولوج إلى المعرفة و المساهمة في بناء وطنها.
إذا كان المغرب قد حقق بعض التقدم في إنشاء بنيات تحتية كبرى، فالنقل الحضري و البنية التحتية القروية لا يزالان في مستويات كارثية. وأذكركم في هذا الصدد بتصريح الرباح في البرلمان تعليقا على انهيار العشرات من الطرق و القناطر إثر فياضانات بالجنوب، كما لو كانت مبنية من ورق:”ليست للدولة إمكانيات لإنشاء و صيانة بنية تحتية وقناطر جيدة في الجنوب”. نفس الدولة المشار إليها هنا لديها إمكانيات لكي تمد خط قطار فائق السرعة على طول 200 كم بكلفة 25 مليار درهم (أي ما يعادل كلفة بناء 25 ألف مدرسة و 25 مستشفى جامعي)، إلا أنها لا تملك موارد لصيانة طرق تعتبر الوسيلة الوحيدة لفك عزلة ملايين المغاربة الذين يعيشون في مناطق معزولة من البلاد. فلتذهب الأولويات إلى الجحيم.
فضيحة أخرى يجب إضافتها إلى حصيلة تدبير المرفق العمومي: تفويض تسيير معالم تاريخية إلى الخواص. كيف يعقل أن يتم تفويت جواهر تراثنا الحضاري العابر للقرون عبر آلية الصفقات العمومية للمنافس الأقل ثمنا. لا يمكن وصف ذلك بشيء آخر غير كونه “جريمة”.
إذن لمن سنصوت؟
إذا كان البيجيدي يشتكي اليوم من “التحكم” و من تدخل المخزن في إعداد الانتخابات، فهو يتناسى بأنه كان يتوفر على هامش كبير لكي يطور اللعبة الانتخابية في اتجاه أكثر إنصافا و شفافية (يستفيد منه الجميع)، وذلك عبر إقرار مجموعة من التدابير و القوانين. وأذكركم هنا برفضهم إنشاء هيئة مستقلة للإشراف على الانتخابات و إلغاء ضرورة توفر رؤساء الجماعات على مستوى تعليمي أدنى ناهيك عن الترخيص لمروجي مخدرات سابقين للترشح للانتخابات.
لمن نمنح أصواتنا في 2016، بعد أن فشل البيجيدي تماما في الوفاء لوعوده العديدة التي أطلقها في 2011؟ بالتأكيد لن نمنحها لكراكيز المخزن الذين لا هم لهم إلا الاستفادة من المنظومة القائمة، هم و أقرانهم (خصوصا الأثرياء منهم) و الذين يساهمون في تأبيد السلطوية و الفساد الذين ينخران المغرب منذ استقلاله.
أنا شخصيا سأمنح صوتي لقوة سياسية تمثل خطا ثالثا يفتح أمام المغرب، فيدرالية اليسار الديمقراطي، و التي تناضل من أجل إرساء دولة حق و قانون حقيقية. مناضلوها أبناء للحركة الوطنية، ظلوا دوما صامدين أمام ضغط الآلة المخزنية. لا يتوقفون عن المقاومة و النضال، على امتداد تراب المغرب، من أجل قيم الديمقراطية و العدالة الاجتماعية. هو خط ثالث يشق طريقه بحزم، بعيدا عن الإسلاميين الذين رغم إيديولوجيتهم المحافظة كانوا أولتراليبيراليين على المستوى الاقتصادي، و بعيدا أيضا عن المخزيين اللاديمقراطيين الذين يهتمون فقط باستمرار امتيازاتهم.
خط فيديرالية اليسار الديمقراطي هو بالنسبة لي آخر أمل.